الجمعة، 25 سبتمبر 2009

كيكش المغوار - الجزء الأول


الحلم

جلست في مكتب مشرف مشروع تخرجي في الكلية ساهمًا، همي في الآونة الأخيرة البحث عن مادة علمية كافية لتنفيذ مشروع تخرجي (قصة مصورة Comics)، ولم أكن أتصور أن مسألة البحث عن مراجع تتناول تاريخ القبائل الليبية القديمة كالتحنو والليبو والمشواش، وكافة ظروف معيشتها كالملابس والأدوات والمساكن وغيرها، تمثل مشكلة مستعصية.
ابتسمت في سخرية -صار هذا ديدني- أبحث عن الحلول لأجد المشاكل دون أن أدري، غرضي كان إنشاء قصة مصورة تتناول بطلا ليبيًا أسطوريًا تاريخيا من نسج خيالي، ويناضل من أجل كسر شوكة الحضارات الاستعمارية المتعاقبة على الأرض الليبية.
تنهدت بحرارة دون أن أشعر، وأنا أتذكر تفاصيل لقاءي السابق مع أستاذي غسان:
(- هل توصلت إلى قرار نهائي بخصوص موضوع قصتك؟
- ليس بعد.
- معاد، رجائي أن تستمع إلىَّ دون حرج، قد يطول الوقت دون أن تتوصل إلى جمع مادة تعزز رسوماتك بالتفاصيل اللازمة، وهذا قد يضعك أمام مشكلة حقيقية إذا ما تجاوز بك الوقت اللازم لإنجاز المشروع، لماذا لا تقدم مقترحًا آخر يضم نفس الفكرة معالجًا فترة واضحة ومعروفة من تاريخ ليبيا؟
 عقدت حاجبي في ضيق، وهرشت رأسي كعادتي قبل أن أرد:
- أقدر لك رغبتك الصادقة لانتشالي من تخبطي، ولكن السبب الذي يدفعني للإصرار على معالجة هذه الفترة التاريخية بالذات، هو ذات المشكلة التي أعانيها الآن، وهو غموضها، ما الجديد في تناول فترة تاريخية واضحة ومعروفة؟ إنني أرى أن الفائدة الحقيقية تكمن في إماطة اللثام -الذي لا أرى له سببًا- عن زمن كانت فيه الحضارات العربية كالبابلية والفرعونية وحضارة قرطاجة، ذائعة الصيت راسخة المعالم، لماذا لا يجد القارئ الليبي الناشيء تاريخه مصورا بصورة جذابة بسيطة في قالب قصصي مرسوم كما في القصص الفرنسية مثلا؟ التي أشبعت تاريخ فرنسا إيضاحـًا منذ حضارة الغال مرورًا بالثورة الفرنسية وحتى وقتنا الحاضر؟
ضحك الأستاذ غسان:
- أقدر طموحك وحماسك الجاد، وأتمنى أن يكلل بالتوفيق من كل قلبي، ولكن …
خَبَت ابتسامته لتحل محلها نظرة جدية مرعبة وهو يلوح بسبابته منبهًا:
- لن أتركك حتى تسبب الضرر لنفسك ولمشروعك، سأمنحك أسبوعًا إضافيا واحدًا، إما أن تجد فيه المادة الكافية، أو سأضطر على إرغامك لإبدال فكرة مشروعك بفكرة أخرى.
- سأحاول بإذن الله، ولن أهدأ حتى أقدم مشروعًا جيدًا.
- تكفل أنت بمشروعك، ودع تقييمه لغيرك، فهناك من سيتكفل بك وبه.
ازدردت ريقي في صعوبة، وأجبت متخيلا لجنة مناقشة المشروع متربصة أمامي:
- وهل يمكنني نسيان ذلك.
ابتسم الأستاذ غسان وتابع:
- وإن كنت أشعر بأنك ستحقق فكرتك في النهاية).

هذا ما دار بيننا الأسبوع الماضي، ولم أشعربه، يقف لتوه جواري، ويرمقني بنظرة باسمة مشفقة، لعلها تليق بمعتوه مثلي.
- صباح الخير أيها المشاكس، لقد انقضى أسبوع المهلة.
انتبهت، فهززت رأسي في تحية يائسة تسندها ابتسامة لا معنى لها، ألزمت الأستاذ غسان الصمت.
- حضرت لأطلب منك آخر مهلة لإحضار المادة.
هم الأستاذ غسان بالحديث، ولكني تابعت كالمحموم:
- حتى الغد، الغد فقط، وإلا فسأشرع فعلا في تنفيذ فكرة جديدة، أعدك بهذا.
عقد الأستاذ غسان حاجبيه متسائلا:
- ولماذا حتى الغد؟
وكأن لسانًا آخر ينطق عني (أنا لا أؤمن بالتقمص عمومًا) أجبت في سرعة:
- لدي اليوم موعد مهم يتحدد إثره مصير المادة، و...
طال صمتي، فقال الأستاذ غسان ضاحكًا ( أكاد أقسم أنه يراني معتوهًا ):
- حسناً أيها العنيد، لك ذلك، ولكن، تمامًا كما يحدث في القصص القديمة، مهلتك حتى مطلع شمس
   الغد، تذكر،حتى يوم الغد.
- حتى يوم الغد، يوم الغد، يوم الغد ...
ظل صدى العبارة يتردد طويلا في ذهني وأنا أتقلب في فراشي ليلا، كنت أعلم أن ميلاد شمس الغد يعني موت حلمي، لقد مضى نهاري كله في البحث، ولم أتوصل إلى نتيجة مرضية، علىَّ الآن أن أقنع بالأمر الواقع وأودع حلمي، فأتبنى فكرة جديدة و ...، يع، أنا أرفض الفكرة أساسًا، ولكن ما باليد حيلة، تتابعت الأفكار، أو اللا أفكار في الواقع، في خيالي، ولم أدر متى أدركني النعاس، يالها من ليلة جميلة، فالهواء عليل، عجبًا، يخيل إلىَّ أنني أغلقت النافذة قبل نومي، فمن أين يتسلل هذا الهواء إذا؟ آه، لا داعي للقلق، إنه مجرد خيال عملاق يتسلل عبر النافذة إلى حجرتي، لابد أنه هو من فتحها، الخيال يقف على رأسي، يرفعني ويضعني على كتفه، ياله من خيال قليل التهذيب، فهو لم يلقي السلام أو حتى تحية المساء، ولم يترك لي حرية الاعتراض، الخيال يقفز بي عبر النافذة، يا له من مجنون، سيدق الخيال عنقينا معًا، فأنا أقطن في الطابق الثاني،ولكن، اللعين، لقد وطأت قدميه الأرض وعنقينا سليمين، ياله من محتال، أين قانون الجاذبية و، .......... خخخخخخخخ.

استيقظت من نومي، وفتحت عينًا واحدة في كسل كعادتي، طالعتني النجوم، فأخذت أتمتع بمشاهدة المجموعات النجمية، مستعيناً بالدب الأكبر كقاعدة للوثب النجمي إلى المجموعات الأخرى كذات الكرسي، وكوكبة الدجاجة، عجبًا، لماذا تبدو لي النجوم متباعدة وكأنها ... هببت فجأة من فراشي مذعورًا، ولكنه ليس فراشي، إنه فعلا لحافي، ولكن، أخاف أن أقول الحقيقة، أتراها فعلا حقيقة، أغمضت عيني بشدة، وعدت أفتحهما، المشهد لم يتغير، صار من حقي إذا أن أصرخ وأقول أنني في الصحراء.
كيف حضرت هنا؟ تذكرت خيال الليلة الماضية، أين هـ ... وقبل أن أنهي تساؤلي أخذ خيال ضخم يقترب مني، إنه ذات الخيال الذي رأيته بالأمس، وتلاحقت أنفاسي وملامح صاحب الخيال تتضح لي تدريجيًا، وددت أن أشعر بالذعر أو الرعب منه، ولكن ملامحه التي صارت الآن واضحة توحي بالعكس، صحيح أنه يبدو كالوحش بعضلاته الهائلة، والأسلحة البدائية التي يحملها، ولكن عيناه الواسعتان السوداوان، وتقاسيم وجهه الأسمر الوسيم ذو الملامح الطفولية بأنفه الصغير، والابتسامة التي تبدو وكأنها تتدلى من شفتيه منذ طفولته، كلها توحي بثقة عكسها صوته وهو يخاطبني:
- كيف حالك يا معاد؟                          
رددت بتلقائية:
- الحمد لله و ...
تدلى فكي في دهشة.
- تتساءل كيف عرفت اسمك، فكك المتدلي في بلاهة يقول هذا، ما أكثر مالا تعرفه يا معاد، فليكن
   الصبر شعارك الآن.
وكأن الصبر بالذات هو ما نفذ مني معينة، فقلت:
- من أنت؟ وأين أنا؟ وما معنى وجودي هنا؟ وما هذا الزي الغريب؟
اللعين، وكأن هناك من أخبره بأن الغموض ينقصه، فأجابني متدثرًا به:
- أنا من تبحث عنه، وأنت في وطننا، وسبب وجودك هنا هو أنت، وملابسي تناسبني.
عم يتحدث هذا المعتوه؟ أبحث عنه؟ وماذا يقصد بوطننا؟ ثم، ماذا قال عن سبب وجودي؟
عدت ألتزم الصمت مجددًا، وأتأمله، كان يرتدي زيًا مكوناً من شرائط جلدية متقاطعة على الصدر، مزدانة بقطع من الأصداف والحجارة، يصفف شعره بطريقة غريبة، فالجبهة مزدانة بخصلة، ولكن ...
هذا الزي ليس غريبًا جدًا كما ظننت بالبداية، كأني سمعت عنه أو رأيته في مكان ما، وحال النجوم المتباعد يمكن أن يفسر، ابتلعت ريقي، هناك شيئا ما ليس على ما يرام، وعادت عيناي تصطدمان بعيني العملاق.
- حسناً لنتحدث بهدوء، لقد ناديتني باسمي، وقلت أنني هنا بناء على رغبتي، وأنني في ليبيا، ألا
   يحتاج الأمر في نظرك لإيضاح أكثر وضوحًا؟
- اتبعني.
أين أصدقائي وزملائي في الكلية الذين يتهمونني بالهدوء والغموض، ماذا سيقولون إذا ما رأوا هذه الكتلة الصامتة، يا للفصاحة، ليس العملاق من هواة الحديث على ما يبدو، نهضت مغتاظاً، وتدفقت الخواطر مع الدم إلى عقلي فور نهوضي، أين أنا من منزلي؟ وكيف وصلت إلى هنا؟ وما معنى كلام وسلوك هذا العملاق؟ وإلى أين يأخذني؟ أسئلة تكفي لإحراق ولو صهيرة واحدة بدماغي المكدود، سار العملاق أمامي موليًا ظهره لي حاملا عني اللحاف تجاه الغرب، طلب صريح لتبادل الثقة، وبعد مسيرة ثلث الساعة تقريبًا توقف عند حافة تل رملي، وأشار لي أن أخفض رأسك، وهل أملك خيارًا غير الانصياع؟ حاولت أن أبدو لا مباليًا، وحين صرت بمحاذاته انبطح، وقفت أنظر إليه متظاهرًا بالبله، فأشار بسبابته لي أن أحذو حذوه، حمدًا لله، لابد أنني أفلحت أخيرًا في إثارة غيظه، فإشارته لا تخلو من الوعيد، ولابد أنه أشار بسبابته بالذات قاصدّا سبابي، انبطحت، وعاد ليشير نحو الأسفل، تتبعت سبابته، لابد أنه يعاني فرطاً في استعمالها، وهنا كاد فكي يلامس الرمال من تحتي من فرط التدلي، فما أراه أمامي يخالف كل معقول، وللمرة الثانية أغلقت عيني في قوة، وعدت لأفتحهما.
فأمامي، وعلى مساحة واسعة من الأرض المنبسطة، تمتد مساكن متجاورة مبنية من الحجارة والطين وموزعة بتنسيق مكونة فيما بينها ما يشبه قرية، قرية كاملة، كان واضحًا أنها نائمة، وعندما بلغ عقلي هذه الدرجة من التحليل، شعرت بالدوار، لابد وعي سيفعلها.
- هل تسمح لي أن أفقد وعيي قليل؟
- ليس الآن، في القرية ستجد الوقت الكافي هناك لتفعل ما تشتهي، أمامك الآن مجموعة من المباني
   التي بنيت على طراز من الطرازين المشهورين، الأول المبني بالطوب، ويشبهها عندكم مساكن  
   مدينة غدامس، والثانية وتدعى بالماباليا، وتبني بحزم سيقان النباتات، وهي قابلة للنقل من مكان
   إلى آخر، غاب القمر، تدثر بلحافك.
هبطنا الثلة، وبلغنا القرية، ودخلنا منزلا يقع في وسطها تقريبًا، صارت الأرض فعلا تتداعى تحت قدمي، فتح العملاق الباب ودخلنا المنزل.
- معاد.
- نعم.
- بخصوص طلبك الأخير.
- أي طلب؟ آه تذكرت، أشكرك.
تركت جسدي يسقط بين ذراعي العملاق، وكياني يسقط في عصر لعله لم يعرف التاريخ بعد، داخل أحد القبائل الليبية القديمة.
- هل استيقظت؟
- لا.
ابتسمت محدثتي الصغيرة، فرغم وضعي الخارج عن المألوف، إلا أنني لم أفقد القدرة لا على النوم الهانئ ولا على المزاح السخيف لحسن الحظ، أبدو لي هذا الصباح في أحسن حال، وإن كانت عيناي تفصحان عن كم من الأسئلة تكفي لحجب وجه الصحراء بكل تأكيد، أخذت أنظر إليها في تساؤل وكسل، فتاة صغيرة حافية شقية ذكية النظرات، زرقاء العينين، بيضاء البشرة، حمراء الشعر، باسمة الثغر، تبرز أسنانها الأماميتان بشكل محبب، ويتدفق شعرها الطويل الناعم بشكل عشوائي وجميل، ترتدي زيًا يتكون من فستان له كم قصير من جانب، وبدون كم من الجانب الأخر، وهذه بالذات أعلم أنها أحد خصائص الزي الليبي القديم سواء بالنسبة للرجال أو النساء أو الأطفال، كتلة من البراءة الحجرية يبلغ عمرها العشر سنوات تقريبًا.
-  آنستي الصغيرة، هل أنت جاهزة لتلقي الأسئلة؟
- وهل أنت جاهز لتلقي الإجابات؟
- لا.
- رائع، أنت في قريتي، وهي من قري قبائل الناسامونس، وفي فترة الاحتلال الروماني لليبيا، وإن كنا لم نعرفها حتى الآن بهذا الاسم، فالقبائل الليبية تمتد من غرب النيل إلى المحيط الأطلسي شرقاً وغربًا، ومن ساحل البحر وحتى بحيرة تشاد شمالا وجنوبًا.
تقرير إخباري رائع، لم أستطع أن أخفي إعجابًا شديدًا بنبوغها وإدراكها، فتابعت وأنا أستشعر متعة لمجرد دفعها لمتابعة الحديث:
- وماذا عن التسمية؟ أعني اسم ليبيا؟
ليس لهذا الاصطلاح مدلول محدد لدينا، فنحن نعرف مساحات منها بأسماء مختلفة وفقاً للمجموعات السكانية المختلفة التي تقطنها، فهناك التمحو والريبو أو الليبو والمشواش، التي تمتد أراضيها من غرب وادي النيل شرقاً وحتى بحيرة تريتونس في الغرب، وهناك الأدروماخيدي والجليجاماي والأسبوستاي والمارماريداي والأوسخيساي والناسامونس والمكاي وأكلة اللوتس والجيتول والمور، وفي بعض الأحيان يقصد بليبيا كل القارة الأفريقية، وأحياناً شمال أفريقيا بما في ذلك منطقة الصحراء الكبرى، هل أستمر أم أترك لك الفرصة لمعرفة باقي التفاصيل بنفسك؟
حدقت فيها مذهولا، اصطلاح ومدلول؟ أي طفلة هذه؟ إذا كان هذا حال أطفال هذا العصر! فما هو حال كبارهم؟ إلا إذا كان نبوغ هذه الطفلة استثنائيًا.
- ما أفصحك، لا بد أن أبوك الذي جلبني وعلمك هذا كله؟ أين هو الآن؟
حملقت الصغيرة بدهشة لوهلة، انفجرت بالضحك، اعترف فعلا أن هذه الشيطانة الصغيرة تمتلك موهبة فذة على إثارة الغيظ، سرعان مازال فابتسمت، تحولت إلى ضحك، يالي من غبي، فعملاق الأمس كان أسمر البشرة، أسود العينان، ولا يمكن أن يكون أبًا لهذه المخلوقة.     
- أين ذهب...؟
- سيأتي.
سيصيبني هؤلاء القوم بالبكم إذا ما بقيت فترة بينهم, أزحت اللحاف جانبًا ونهضت, هناك أمر ما ليس علي ما يرام, ولكنني لم أركز، كان الفضول يتناول إفطاره المتكون من خلايا مخي تحرقاً لإلقاء نظرة بالخارج.
- لا تفعل.
- عفوًا؟!
- لا تخرج من المنزل حتى يحضر أبي وصديقه و، عمَّ تبحث بعينيك الحائرتان؟
- لا شيء، فقط شيء أحطمه قبل أن أفقد أعصابي.
- يكفيك نفس عميق.
وانتبهت لحظة، تمتمت إثرها:
- أسمع خطوات أبي تقترب، إنه يقف عند الباب الآن، يفتحه برفق، يدفعه، هاهو.
(كيف لهذه الملعونة الصغيرة أن تسمع خطوات أبيها دون أن أشاركها السمع؟)
- أسعدت صباحًا أخ عاد.
من يقصد بعاد؟ إنه اسم لا يليق بالصغيرة بالتأكيد، وليس هناك سواي بالحجرة.
- أسعدت صباحًا يا سيدي، هـ ...
- قبل أن تقول لي أي كلمة، يجب أن تعلم أنه رغم كوني زعيم القبيلة إلا أنني لست مخولا للحديث معك، ستتحدث مع رعنوبي أولا.
- ..................
- فيما بعد بالتأكيد.
خرج ببساطة، وتركني جاهلا ما أقترفه بحق أعصابي، أنام داخل مسكن زعيم قبيلة الناسامونس، وأتحدث مع شيطانته الصغيرة، وأنتظر قدوم رعنوبي هذا، وأتلقى الأوامر بصيغة طلبات (لا تنم، لا تخرج، لا تتحدث)، هيه، أين شخصيتي؟ أين رأيي؟، الباب يُفتح، لابد أنه رعنوبي، سأغضب في وجهه، سأحطم شيئا ما لأبدو خطيرًا، سأركله إذا لزم الأمر، سأ....، أأ.....
- أسعدت صباحًا يا عاد، ما بالك تحملق فيَّ بهذه الصورة؟
انصهرت صهائر عقلي أخيرًا، أخذت أصرخ وألتفت يمنة ويسرى، وما زاد جنوني هو عدم وجود أي شيء يصلح للتكسير، نظرت إلى الفتاة الصغيرة، فوجدتها تكاد تموت ضحكاً، اللعينة، هل أخنقها؟ لابد أن صوت صراخي وصراخها سيصل إلى أرض الفراعنة إذا ما فعلت، يسألني عما بي؟ تبًا لنا، حسناً، قليلا من الصبر وسأخبره.
- أنت! ...
- ا؟ هه، أكمل؟
- سأله أي عبث أحضره وأحضرني إلى هنا؟ وعن سر ارتدائه هذه الملابس الغريبة؟ ظننت نفسي
  
تركته في، ... ماذا أقول؟
- وائل.
- وائل؟ أرجو ألا تعني هذه الكلمة سبابًا بلغة ما؟
- ويحي، أنت وائل، صديقي اللعين الذي لا يكف عن التفلسف، وعن التذمر من الذين يجعلون الحياة  
   لا تطاق، لا يمكن للتاريخ أن يحفل بأحمقين معًا.
- هل أفهم من كلامك أن لك صديقاً يشبهني إلى حد كبير؟
- حد كبير؟ لا ينقصك إلا نظارة وتصبح كارثة مثله.
- يبدو أنك تحب صديقك هذا كثيرًا.
صمت لفترة، وقررت ألا أغلق عيناي هذه المرة لأتيقن من المحيط الذي أعيشه.
- حسناً، سأتظاهر بأنني أصدقك، أسعدت صباحًا يا سيدي، لقد فقدت القدرة على النطق ونظرت إليك
   بتلك الصورة لأنني كدت أفقد عقلي عندما رأيتك تدخل الغرفة، فخلتك صديقاً عتيدًا لي، هذا كل ما
   في الأمر.
- حسناً، هلا جلست لنتبادل أطراف الحديث.
يتظاهرون بالتهذيب، وما أبدي الاعتراض حتى أجد أنه لا خيار آخر لدي غير الانصياع، تركت نفسي أسقط على ركن من الفراش، وأخذت أحدق فيه، أنفه، عيناه، أذناه تـ .. عفوًا، فأذناه تختفيان وراء ذلك ال، الشيء الذي يرتديه الفراعنة فوق رؤوسهم. حتى أسنانه وقامته و، مهلا، هذا المخلوق ليس وائل فعلا، فهو يمتلك شعرًا أغزر، ويبدو أذكى.
- أسمك هو عاد، وأنت موفد كنعاني سري، جئت إلى هنا متجهًا إلى قرطة عاصمة نوميديا، حيث
   اختطفك بعض الرومان، ولكن كيكش أنقذك، وجلبك إلى هنا حتى تتعافى، وتواصل رحلتك، ولا
   ينبغي أن يتجاذب معك أطراف الحديث، سوى كيكش وأنا وكركنا، هذا هو ما يجب أن يفهمه
   الجميع.
- ومن هو كيكش؟ ومن أنت؟ ومن هو كركنا؟ ثم، كوني كنعاني موفد إلى قرطة يعني أن أغادر إلى
   وجهتي، فمتى سأجمع ما أريد؟
يا للمصيبة، إنها ذات الابتسامة الخبيثة لوائل عندما يخفي أمرًا ما، لن أتبسط معه وليكن ما يكون.
كيكش هو بطل أبطال القبائل، واسمه نسبة لقبيلة ليبية قضت عليها الحرب ويحمل اسمها، ولا يظهر إلا عند الحاجة إليها، ورعنوبي هو أنا، وأظن أنني أبدو فرعونيًا، يعرفني الجميع على أنني كاهن وطبيب وموفد ملكي شخصي بين بعض الثوار المصريين – الباحثين عن الحرية من نير الرومان – والقبائل الليبية، وكركنا صديق حميم لكيكش يمكن الوثوق به والحديث معه دون أي خوف، ويمكنك سؤاله أي سؤال حول الحياة التي حولك، دعني أؤكد عليك ضرورة التزام كلامي حول ماهيتك، أما عن سؤالك الأخير، فستعلم إجابته قريبًا.
- وهل تعرف من أكون حقا؟ سبب حضوري إلى هنا؟ وكيف؟ وإلى متى؟
- طبعًا.
- وماذا تنتظر لتخبرني؟
- أنت تدعى معاد، وسبب حضورك هو احتياجك لدراسة ومعرفة هذه البيئة، وكيكش شخصيًا هو
   من أحضرك بعد أن ضمنك إثر جدال عنيف، وستظل هنا حتى تتشبع بالمادة التي تريدها
   لدراستك.
- جدال؟ مع من ؟ ولماذا؟
- أعتذر عن إجابة السؤال، كل ما أستطيع قوله لك أن كيكش لمس فيك عجزك وحيرتك ويأسك،
   فعز عليه أن يقف مكتوف اليدين، وقرر أن يخاطر ويساعدك، شريطة ألا تتدخل في مجريات
   الأحداث، وأن تعيش كابن لهذا الزمن، ناسيًا أنك تنتمي إلى أي مكان آخر.
لأول مرة أشعر أن وراء وجودي هنا معنى عميق، ياله من نبيل هذا الكيكش، صحيح أنني ألتهب فضولا لأعرف كيف أحضرني، ومن الذين جادلهم بعنف من أجلي، وكيف يكون حالهم متخلفاً رغم قدرتهم على عبور الزمن، ولكن، سيكون أقل معروف أقدمه له هو لجم فضولي السلبي، واحترام ما تعهدني به، أين هو الآن لأحييه؟
- له ذلك.
- اتفقنا، اسمح لي أن أغادر الآن.
- وائل.
- ألم نقل أن اسمي رعنوبي؟
- ألا تسمح لي بأن أناديك بهذا الاسم؟
هز رأسه نفيًا، وقال بمزيج من الكبرياء والاعتداد:
- اسمي رعنوبي، ولا أحب أن يناديني أحد بغيره، ولابد أن لدى صديقك نفس الصفة إذا ما كان
   يشبهني فعلا، إلى اللقاء.
صدقت، بل لعل وائل كان سيزيد عليك مدعيًا أنه مركز الكون كعادته، ولا أنكر أن مجرد الشبه بينهما منحني شعورًا بالدفء والآلفة، وانصرف، فالتفت إلى الصغيرة متسائلا:
- لكنه نسي أن يوضح لي من هو كركنا؟
- لا تجرح شعوري يا معاد.
- وكيف أجرحه لك؟
- لأن كركنا فتاة، أنا.

لم أستطع أن أمنع نفسي من الضحك، فضحكت معي، وتعالى ضحكنا كالبلهاء، جاهلا ما يدور في هذه اللحظة بخيمة قائد الرومان الأعظم لفرقة أغسطس الثالثة أكبر فرقة قمع منظمة شهدها العالم قديمًا وحديثاً، والتي استقرت في شمال إفريقيا لتكون بمثابة الشوكة في حلق الثورات الداخلية لشعوب المستعمرات، هرش قائد الفرقة أذنه وهو يستمع إلى رئيس جنده، ليستوثق المعلومة التي سمعها منه للتو.
- هل أنت متأكد؟
- أجل يا مولاي، فجاسوسنا أكد لي أن كيكش بنفسه حمل إلى قبائل المشواش رسولا كنعانيًا موفد
   إلى قرطة، وادعى أنه أنقذه من فرقة رومانية خطفته، رغم أنني متأكد من عدم صحة ادعاءه.
- حسناً، انصرف الآن يا كاسيوس، ما بك تحدق فيَّ كالأبله؟ قلت انصرف.
انصرف كاسيوس حانقاً على بخل قائده الذي ضاقت عيناه وهو يفكر، لابد أن وراء كذب كيكش سرًا خطيرًا يتقاسمه مع الرسول الكنعاني (الذي هو أنا طبعًا).
ممن سيستوضح السر؟ ليس من كيكش بالتأكيد، فهو يخاف مجرد سماع القصص التي تُروى عنه، من المتبقي إذا؟ وهل هناك آخرون؟ أنا من سيفخر بأن يستوضحه، حتى لو اضطر إلى إحضاري لخيمته وإيساعي ضربًا وركلا واقتلاع لساني ولا بأس بقذفي بالمنجنيق علي سبيل التغيير إذا لزم الأمر (المعتوه، ماذا لو أخبره أحد عن فنون هذا العلم من بعده، المقصلة وغاز السارين والكرسي الكهربائي، ناهيك عما يجري في أقبية أجهزة المخابرات في عصر الفضاء).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق