الثلاثاء، 25 أكتوبر 2011

وجها لوجه مع القذافي

الشيخ الشهيد محمد المدني / مدونة سلفيوم

خليط هي بين القصة الساخرة والواقع المرير الذي عاشه الليبيون خلال "اعتصار" الجماهير، ولكنه قبس يلقي الضوء على حقيقة واضحة:
عندما تصطدم مع القذافي وجها لوجه، فستعلم يقينا أن حريتك وفكرك غاليا الثمن.

--------------------------------------------------
وجها لوجه مع القذافي
--------------------------------------------------

توطئة:
أحداث هذه القصة حقيقية، نصوص المحادثات قد تكون غير دقيقة حرفيا ًبسبب التقادم وخذلان الذاكرة، وكذلك خضوعها لمعالجة الفصحى حتى يفهمها غير الليبيين، أما مضمون المحادثات، فهذا ما يضمنه ما أدعيه من أمانة أعتقدها في ذاتي، لعلمي أنني أقدم شهادة لمن يهتم على أحداث مرت بي بمعية من غادر الدنيا إلى دار الحق.

الفصل الأول: المخيم الأول للمتفوقين والمواهب

الشخصيات:
1-     عبد القادر اللموشي: شاب متعلم مثقف طموح، صديق وزميل دراسة، وصاحب فكرة المخيم.
2-     أنا: يمكنك مطالعة المدونة إن شئت معرفة المزيد عني.

صيف 1992، أمسية من أماسيه التي كان شبابنا يحار في كيفية قضائها، فمن لم يلتهب عقله بحب كرة القدم أو السباحة، لن ينعم بمشاهدة الفضائيات لأنها ترف تفصله عنا بضعة سنون أخرى، أما عن الإنترنت، فلم ترتق بعد لتكون حلما من أحلام العالم الثالث.
لم أتعد السابعة عشر بعد، ولم أعرف تسلية غير المطالعة والرسم والخط ومواصلة أخلائي محمد الجربي ووائل الرعوبي وقليل ممن قادهم حظهم العاثر ليبتلوا بصدقاتي، ومنهم عبد القادر اللموشي، الذي لطالما أثارت طريقة إاستهلاكه للزمن، لديه وقت للقراءة، للرياضة، للحلم، للتخطيط، للتعارف، وحتى للحديث معي :
- نعتزم التحضير لمخيم من أجل تكريم الأوائل دراسياً.
حتما لا أحفل بمن عناهم في صيغة الجمع "نعتزم"، فلي رأيُ كفيل بإسقاط رأسي فور مغادرته، ما أحفل به هو:
- هل سيكون على غرار معسكرات البراعم أو اللجان الثورية؟
- لا، الغرض الأساس هو تكريمهم.
- لماذا لا يتم توفير فرصة الكشف عن ميولهم وإبداعاتهم الفنية خلال المخيم، لتزجية وقتهم أولا، ولتُجمع وتجهز في معرض ختامي ثانيا.
- فكرة جيدة، تحتاج من يعنى بها، هل تستطيع المشاركة بالخصوص.
- إن شاء الله.
هكذا كان موضوع حوارنا الأول، ولطالما شعرت بحيرة حول قدرة عبد القادر الفريدة على السير بين دهاليز اللجان الثورية المقيتة ومكتب الاتصال واتحاد الطلبة دون أن يفقد آدميته وحسن خلقه ومعشره فلا ينجر إلى حضيض ممارسات سدنة فكر القذافي من وشاية وتقتيل وإرهاب، معادلة مستحيلة استطاع تحقيقها بمعجزة لا يعلمها إلا المولى، ولو كنت أعلم عنه غير هذا لنفذ رصيد صدقاته لي منذ زمن.
قبيل بدء أيام المخيم الأول للمتفوقين والمواهب، كنت قد اجتزت للتو امتحانات الدور الثاني للسنة الثانية ثانوي في مادتي الكيمياء والرياضيات البحتة بثكنة علي وريث الثانوية، وهي مؤسسة تعليمية تميزت دوماً بتعاقب أبناء كبار المسؤولين -في تلك الحقبة- للدراسة فيها، ولم يكن أبناء القذافي وأعوانه استثناء، فجُمِعْتُ في فصل دراسي بهانيبال القذافي، لا حاجة لسؤالي حول سبب اضطراري خوض تجربة دور ثان، فالإجابة مزيج أحار فيه بين سوء –لا إهمال- دراسة مني، وبين حظ عَثِر، ونتائج الفترتين الأولى والثانية خير برهان.
انطلقت فعاليات المخيم من داخل ما كان يسمى ملتقى 11 يونيو للشباب العربي في منطقة القره بوللي، وهو مصيف رائع على البحر، لأعيش بينأولائك العباقرة الصغار الذين تميزوا عن بقية أقرانهم بكد ومثابرة تُوِّجا بالتفوق، ولولا قليل من حياء لقدمت أفكارا تثير حسد وغيرة البروفيسير منجل شخصيا لتطرفها في كيفية رصد لحظة الإبداع داخل عقول المبدعين عن كثب، علَنا نكشف الوصفة السرية لتفوقهم فنعممها على بقية الشباب ونملأ بلدنا بالعباقرة، ولكن هذا لم يحدث لحسن الحظ.
تساقطت أيام عمر المخيم ورقة تلو الأخرى، أوراق جميلة من التعارف والنشاط أثبتت لي أن التفوق العلمي قمة جبل جليد قاعه مؤسس على حسن الخلق وإدارة الوقت في الأغلب، سررت جدا بترجمة أفكار بعضهم على هيئة أعمال فنية بصفتي مشرفاً للنشاط الفني، ولم تبق إلا ورقة واحدة هي ورقة الغد الختامي، لتتدخل قوة خفية عنا أطالت عمره إلى أجل غير مسمى، قوة استحضرت أسرة المخيم بأكمله في حافلة نقل سريع  إلى مدينة سرت، لنعلم فيما بعد أن القذافي شخصيا هو مصدر هذه القوة استجابة لدعوة من إدارة المخيم تدعوه للحضور.
ليل، فمعسكر للبراعم بلا نوافذ، حشود ناموس فاخر يجد طريقه بشكل ما إلى بشرتك رغم ملابسك وما تلتحفه من شراشف، أجاد الأستاذ عمران معتوق الوصف عندما قال بأنه تابع كراديسها أثناء تجمعها المنظم في الساحة توطئة لانطلاقها نحونا كوجبات شهية دعانا القذافي لها كقربان.
شمس ونهار، فخيمة داخل المعسكر، وتدافع مفاجيء لسيارات دفع رباعي، أتربة وغبار، تدافع لأسرة المخيم لاستقبال القذافي، وتراجع مني لحرصي المفرط على كرامة أحرص ألا يتهدر من قبل أحد حرسه -ولن يتورعوا- إذا ما رأوا بأفقهم الأمني ما يتهدد قائدهم مني.
صفوف أسرة المخيم تتناوب لاختلاس لحظة من الزمن في صور تذكارية جوار القذافي، محاولات لن تجد تفسيراً لها عندما تعلم بأن مصير الصور مجهول بالنسبة لهم، ولم أكن للأسف استثناء في التفكير، وإنما استثناء في التنفيذ، داع أخرق دفعني لمحاولة غير مسبوقة للتصوير أمامه بدلا من جانبه أسوة بمن سبقني، وكدت أُقْتَنَص في غفلة مني -حسب شهادة رفاقي لاحقاً- على هذا السلوك لولا إشارة من القذافي استوقفت حرسه تاركاً إياي لأتخذ وضعية نصف جلوس أمامه بمواجهة الكاميرا، وأبتسم تلك الابتسامة البريئة دون أن أعلم أي خطأ فادح اقترفته لأدفع ثمنه فيما بعد، "تشك تشك، تشك تشك"، ووجدت اللحظة طريقها إلى عدسة وفلم الكاميرا ومعدات التحميض كزرع سيحين قطافه فيما بعد، من نافلة القول أنني لم أصافحه، وهذا كان خطأ آخر.
عودة إلى المخيم، لتدور في الخفاء فصول قصة مرعبة أخرى قد أسردها مستقبلا، اختتام، فعودة إلى حياتي الطبيعية ...مؤقتا.
نسيت أن أخبركم شيئا مهما، المخيم كان برعاية مؤسسة مرعبة، سميت بشعبة اللجان الثورية بالمؤسسات التعليمية، برئاسة المدعو صالح ابراهيم.

*****

الفصل الثاني: عند صالح ابراهيم

الشخصيات:
1-  صالح ابراهيم: شخصية برزت وصعدت بدعم من القذافي لتجد لها مكانا في الوسط التعليمي من أجل تسييسه وتكريسه لخدمة فكر القذافي، ما ذنب التعليم ليعاقب بمثل هذه الشخصية في صفوفه؟ لا أفهم.
2-     ع.غ: صديق مشترك لي ولعبد القادر اللموشي، و أحد ضيوف المخيم الأول.
3-  أحمد كيجمان: عمل رفقة صالح ابراهيم في عمله الذي لا أعلمه لتنفيذ أشياء لا أعرفها من أجل أهداف لم أعلم عنها شيئا، انتهى به المطاف ليعمل في وظيفة ما بمكتب عائشة في جمعية واعتصموا.
4-     أنا أيضاً.

أيام معدودة عقب المخيم، جاء على إثرها المدعو أحمد كيجمان قاصداً منزل والدي في غيابي، محملاً برسالةٍ قصيرة بليغة أبلغها أسرتي: على مراد التواجد صباح الغد عند مقر شعبة اللجان الثورية بالمؤسسات التعليمية بأي ثمن، وسداً للذرائع، يمكنه -أنا طبعا- الحضور في سيارة أجرة ستتكفل الشعبة بسدادها، المهم أن أحضر، ولم أكن المدعو الوحيد، بل برفقة "ع.غ" الذي أعتذر عن ذكر اسمه كاملا دون علمه ورغبته، إلحاحه منح والدي يقيناً جازماً بسوء عاقبة تجاهلي الرسالة.
غموض وتوتر لا أنكر استمتاعي به لأنني كنت مترعاً بشحنة "بوليسية" هائلة جراء مطالعتي لقصص بوليسية لرجل المستحيل والمغامرون الخمسة وما إلى ذلك، قليل من الصبر حتى الغد وإن غدا لناظره لقريب، والد حكيم أنعم المولى عليَّ به، تجاذب معي حديثا قصيرا، أدرك والدي أن سبب استدعائي لا يستحق أن يثير المخاوف بقدر ما يثير من تساؤلات، فالقذافي يتعاطى بحزم مع من يتهددونه، وإرهاصات استدعائي مطمئنة إلى حد كبير، دعك من كوني حريص كل الحرص على عدم الثرثرة علناً، ولن أكون مؤذياً لأكثر من نفسي على أحسن تقدير، نصح منه لي "رد بالك على روحك، أي انتبه لنفسك" وكفى.
صباح جديد، "ع.غ" بصحبتي في سيارة والدي التي وجدت طريقها سالكا حتى مقر الشعبة، غادر والدي ووجدت نفسي مع "ع.غ" في مكتب صالح ابراهيم.
عبارات تحية مقتضبة، لا يعلم أنني أمقته وكل منتسب إلى اللجان الثورية، صورة الشهيد "الشويهدي" وهو يعدم في ملعب بنغازي لم تُمح من ذاكرتي طفلا، تُراه هو من ردد كلمة "يانا عليَّ" أم أنه ...
- هل تعلمون أن "القائد" هو من طلبكم؟.
نعم، لدينا فكرة ما، ولكن رأسي أومأ بالنفي، فأحمد كيجمان هو من ألمح بهذا في غمرة حرصه على ضرورة حضورنا، ولكن ربما كان من الحكمة التظاهر بالجهالة، فرأس كيجمان هذا قد "يطير" نتيجة  هذا "التسريب" حسب ظني، ومن الآن فصاعدا، لن أردد ما قاله رفيقي "ع.غ" مكتفيا بحديثي فقط..
- إن شاء الله خير
ابتسامة عسيرة التأويل ترتسم على شفتي صالح ابراهيم، تراها ابتسامة زهو ما؟
- ربما أرادكم في صفوف حرسه.
- لا أستطيع.
ألجمه الرد، فوجم، عيناه تحدقان بي كمن يعيد تقييم خصمه، لينطلق عقال لساني وعقلي معا في عبارات مشربة بكذب احترازي وأنا أتشفي سراً من صدمته:
- أنا إنسان مسالم جداً ولا آمن كف الأذى عن نفسي في الشارع، فما بالك بحمل مسؤولية حماية شخصية كالقذافي، لا، لن أستطيع ادعاء هذا الشرف، رحم الله امرء عرف نفسه ووقف دونه.
للأمانة، لم يعقب رفيقي بكلمة، أما صالح ابراهيم فلقد قبض سيل ابتساماته واستبدله بالوجوم لحسن الحظ، صمت مطبق أحاط بنا، وأنا أسترجع ذكرى تواجده المحدود داخل المخيم، وكلمته في الختام، كم كنت أتحاشاه هو وشخصية "ع.س" الذي تبجح بشرف مشاركته في أحداث السابع من أبريل الأسود.
إن هي إلا لحظات حتى رن هاتفه، كلمات مقتضبة حول وجودنا في مكتبه، وأننا سنتوجه إلى هناك، وتعليمات منه إلى شخص ما كي يقلنا إلى باب العزيزية.

*****

الفصل الثالث: داخل باب العزيزية

الشخصيات:
1-     القذافي: شخصية غرائبية حكمت ليبيا 42 سنة.
2-     مختار المزوغي: مدير مكتب ما داخل باب العزيزية.
3-  هانيبال القذافي: الابن الخامس للقذافي، درس معي السنة الثانية ثانوي، تميز بلهوه وطيشه، تخللت السنة الدراسية خلافا مباشرا بيني وبينه نتيجة عدم قبولي أسلوب تعامله مع أقرانه لأنه لا يتورع عن استعمال يديه مع كافة أصدقاءه في المواقع التي اعتبرها مكون أساس لكرامتي وأحظرها، الوجه والقذال.
4-     ع.غ أيضاً.
5-     أنا أيضاً وأيضاً.
6- أعمار بلال: والدي الحبيب، وصاحب البوصلة التي سهلت لي طريق الخروج من أزمتي بسلام.

هل جربت أن يصبح لاسمك تأثير مشابه لعبارة "افتح يا سمسم"؟ فتفتح له الأبواب الموصدة.
هذا ما حدث معي ذلك اليوم، ففور وصولنا إلى موقف سيارات مخصص لضيوف باب العزيزية، وإثر هاتف قصير، صارت كل نقطة أمن وتفتيش مجرد نقطة عبور لي ولرفيقي "ع.غ" والسائق، لنجد أنفسنا وراء أسوار باب العزيزية وداخل القيادة.
غياب لمظاهر العسكرة جزئيا داخل المكان، عله ما كان يدعى مكتب المعلومات، مكان هاديء صامت غير مكتظ، حللنا ضيوفا في مكتب يقع عند بدايته، قلبي يخفق في شدة، وأنا ألوم نفسي على عبارة تفوهت بها لأحد حراس نقاط التفتيش جعلته ينظر لي كمن ينظر إلى معتوه ساقته الظروف ليمرره إلى الداخل، عبارة: ما جبتش معي أوراقي الثبوتية "لم أجلب معي أوراقي الثبوتية"، كلمة الثبوتية ربما لم يسمعها بالعامية في حياته، فأي مخبول أنا حتى أشنف آذانه بها؟
لحظات أطل علينا بعدها وجه جديد، يرتدي بدلة "كاكي"، خالية من الرتب العسكرية، مبتسما في وجوهنا، ليبدأ مسلسل الغرابة:
- هلاَّ دونتما اسميكما في ورقة.
كان له ما أراد، ليغيب عنا بعض الوقت، ويعود مكررا نفس الطلب، لأتسائل في نفسي؛ هل هو بارع إلى هذه الدرجة في إضاعة أغراضه بهذه السرعة؟
وقبل أن يخرج، كال لمرافقنا قنبلة أشفقت عليه منها:
- الأمانة وصلت.
كمن أسقط في يده، تلعثم الرجل، ونهض مغادرا، لأتبين أنني وطأت فعلا أرض عالم لا يرحم.
فناجين قهوة وجدت طريقها إلينا عبر "سفرجي" سوداني، ولأنني مترع بالحس البوليسي كما اسلفت، لاحظت غياب أذن لإمساك الفنجان، فتصورت أنها وسيلة لإكراه الشارب على ترك بصمته قسراً، فالتقطت الفنجان بأطراف أناملي فقط وارتشفت منه نكاية في عدو خفي تخيلتني أخيب رجاءه، كانت طيبة المذاق، ولكنها انتهت أخيرا.
طال الانتظار أكثر مما ينبغي، والغرفة قليلة الإضاءة، الصالون لا يدفع إلى الاسترخاء مطولا، فتقلبت في كل الوضعيات الممكنة أحصائيا على مقعدي، صحيح أنه فاخر نعرفه محليا باسم "صالون التاج"، ولكن صالون منزلنا أكثر راحة وحميمية منه، ربما تبادلت الثرثرة مع ع.غ على سبيل التسرية.
أطل وجه مختار المزوغي أخيرا، ليكرر ذات الطلب، حتى شككت أننا سنستمر إلى ما لا نهاية في الكتابة والانتظار والكتابة والانتظار حتى الموت، تراهم اخترعوا هذا النوع من العقاب لي تحديدا حتى أموت غيظاً؟
قام بنقلنا إلى غرفة أخرى وغادرنا، تأملتها، غريبة بدورها، ملئى بالأبواب، إثنان منها في كل حائط جانبي تقريبا، لون جدرانها سماوي فاتح، صالونها وثير مريح، تتوسطه طاولة زجاجية، وكأنها دعوة للاسترخاء بعد مشقة الانتظار.
أكرة باب جانبي تدور، الباب يفتح ويلج منه شخص ما، لنرفع رأسينا أنا و"ع.غ"، ونجد نفسينا في مواجهة القذافي شخصيا، بلا حرس، بلا مرافقين، بلا لفافة على الرأس، مرتديا قميصا تعلوه سترة عادية، مبتسماً حيَّانا ورحب بنا مشيراً لنا أن عودا للجلوس.
الحق أن الأمر تجاوز سقف توتري، لا أدري أين قرأت أن علاج التوتر هو التبسم الباعث على الارتخاء، ويبدو أن العلاج أفلح أكثر مما أردت، فانقلب توتري ضحكا دفعه لسؤالي عن السبب بعد تعارفنا السريع:
- ما الذي يضحكك يا بلال؟
أوضحت له السبب، فتبسم، وسأل سؤالاً حَضَّرَهُ مُسبقاً حسب ظني:
- مراد بلال و"ع.غ"! لاسميكما جرس غير مألوف محليا!! هل أنتما فِلسطينيين؟
- لا والله، أنا ليبي صميم، والِدِي تاجوري، ووالدتي غدامسية الأصول.
- ظننت أنكما فلسطينيين فأردت تكليفكما ببعض الأمور.
لله ذرك يا قذافي، صحيح أنني أصغرك سنا وتجربة، لكن حداثتي لا تعطل قدرتي على عدم استساغة عذرك مبررا، هناك سبب ما وراء دعوتك لنا، ولكنك مرَّرْتَ لنا العُذر الذي أردتنا إعلانه على المتسائلين حول لقائنا بك لاحقا من أُسرنا ورفاقنا، ما من قوة في الأرض قادرة على إقناعي بدخولي لمقابلتك دون تقليبك جنبات السجل المدني وملفات أبي وجدي تحوطا وتحضيرا للقائك، وهذا ينفي عنك حتما تهمة جهالتك بأصلينا.
التقط مظروفا أخرج منه بعض الصور ناولنيها محدثا:
- هذه صور لقاءنا في سرت، يمكنكما أخذ ما تشاءان وتمرير البقية إلى زملائكما في المخيم (صادر الأخ أحمد كيجمان الصور مشكورا بعد أن وعد بإعادتها، وغاب بها حتى هذه اللحظة).
وتخلل الحديث ثرثرة حول المخيم وتجربته، ثم تطوعت بسؤال لم أعلم أنه وخيم العواقب:
- كيف حال هانيبال؟
- بخير، هل تعرفه؟
- درست معه.
- هل يمكنك تقديم المساعدة إن احتجنا لك.
بكل حماقة الدنيا جاهلا بما ستحمله عبارته وإجابتي من مفاجآت أجبت واثقا من كونها عبارة عابرة:
- بكل سرور.
متخيلا نفسي معينا له في دراسته، أو ناصحا له بناء على طلب والده، أو أيا من هذا الهراء الذي لن يدور إلا في مخيلتي القاصرة.
عادت دفة الحديث العام، لأتوج مسلسل حماقتي بسؤال:
- هل لي بطلب؟
اعتدل في جلسته، شيء ما دار في خلده، وابتسم قائلا:
- تفضل.
قمت من مجلسي مصطحبا صورة جمعتني به وقد أشير لي بسهم أخضر اللون، قائلا:
- هلا وقعت لي هذه الصورة.
- فقط؟
- نعم فقط.
- ألا تريد شيئا آخر.
- لا.
اتسعت ابتسامته، عله توقع طلبا غير هذا، لكنه لم يعلم أن والديَّ حرصا على تربيتنا بطريقة كفلت لي عدم سؤالي لأي أحد طلب مادي الصبغة إذا أردت تجنب غضبهما وبعض الركل والصفع والعض، وإلا لكنت نادما حتى الآن أشد الندم على هكذا طلب، حمدت المولى على مظهري البريء الذي لا يوحي بما يدور في رأسي من أفكار.
لم ينس رفيقي سؤاله نفس الطلب، ليقف القذافي في إشارة لنهاية اللقاء، ويلج المزوغي المكتب فيوجه القذافي إليه التوصية:
- خذ أرقام هواتفهما وأعطيهما أرقام الهواتف، وتذكر، عليك إجابة أي طلباتهما، وفي أي وقت، مفهوم.
شيعنا بابتسامة مغادرة، ليكون هذا أول وآخر لقاء لي به في حياتي، أما المزوغي فقد أوصى بمن قادنا إلى منازلنا.
سؤال: أي مشاعر يمكن أن تختلج جوانج شاب في السابعة عشر من العمر شعر بأنه وقع على مصباح علاء الدين؟ ووصل إلى قمة هرم بلده؟
هل تستطيع الإجابة؟

*****

الفصل الرابع: التحضير للنجاح

الشخصيات:
ع.أ: جار فلسطيني، أبادله الود والاحترام، له ماض وحاضر عسكري، وعلاقات لا حصر لها، إحداها مع "أبو" أحدهم، وهو مدرس فلسطيني.
أ.أ: مدرس رياضيات مصري صديق لوالدي، تعود زيارتي قبيل الامتحانات لتعزيز استذكاري طارحا أسئلة متوقعة في الامتحانات.
وأنا أيضا وأيضا وأيضا.

-         نهارك سعيد أخي ع، خيرا إن شاء الله.
-         أردت أن أطمئنك على نتائج امتحانات الدور الثاني، فصديقي أ.ف أخبرني بنتيجة الامتحانات المبدئية التي أظهرت نجاحك.
عانقته فرحا متمتما:
-         الحمد لله، بارك الله فيك أخي ع.
-         لا عليك، ولكن لا تنس "الحلوان".
-         بكل سرور.
عدت إلى داخل منزلي لأطمئن أسرتي، لا زلت أذكر تفاصيل إجاباتي لمادة الكيمياء ، وثقتي بتقديم إجابة جيدة وفقا لمراجعتي لها فيما بعد الامتحان.
أما الرياضيات البحثة، فلي معها شأن آخر أكثر طمئنة، كيف لا وقد قام الأستاذ أ.أ بمراقبتي في يوم الامتحان، وتمكن من مراجعة إجابتي أثناء الامتحان ليطمئنني بابتسامة واثقة بشأن الإجابة، ولأطابق معه إجابتي بعد الامتحان وأتأكد من صحتها بما يضمن اجتياز الامتحان، إن كان نجاحي مقتصرا على مادة دون أخرى، فسأنجح حتما في البحثة لأرسب في الكيمياء، ولكن من سيضع هذا الخيار غير المنطقي على المحك، فقد توجت دراستي بالنجاح في كلتا المادتين، إن هي إلا أيام معدودة وسأجدني غارقا في التحضير للسنة الثالثة ثانوي بإذنه عز وجل.

*****

الفصل الخامس: الطاعة قدر الاستطاعة

الشخصيات:
مختار المزوغي: مدير مكتب ما داخل باب العزيزية.
أنا: تعبت من تكرار الإشارة لتعريفي.
هاتف منزلنا: لا حاجة لذكر نوعه لأنني نسيت، فقط كان رقمه 32283 إن كان هذا يعني شيئا ما لأحد ما يوما ما.

-         صباح الخير يا مراد، الجماعة يسلموا عليك.
والجماعة كناية عن القذافي حسب التوقع الذي أنجبه رحم فهمي لغياب أي توقع آخر، أما المتحدث فهو مختار المزوغي، لا أعلم تحديدا كيف ولا متى وجدت سماعة الهاتف في يدي، المهم أن الوقت كان صباحا، وأنني أجبته بنفسي مصادفة.
-         أشكرك.
-         هم يقرؤنك السلام ويسألونك خدمة كما سبق وأن أبديت استعداداً.
لم أقل لكم أي إنسان ساذج كنته من قبل لأتوقع طلبا يقع ضمن نطاق منطقي الخاص.
-         تفضل.
-         ذكرت أنك زميل دراسة لهانيبال، وكما تعلم فإن والده مهتم بمتابعته.
لم أفهم ما علاقتي بالأمر، لاهتمامه وسيلة تقص طبيعية هي تقارير المدرسة، فما شأني أنا؟
-         ما الذي أستطيع تقديمه في هذا الشأن؟
-         أنت تعلم أن هانيبال في سن تحتاج إلى متابعة في دراسته وسلوكياته وأصدقاءه وكل ما يتعلق به في المدرسة.
شبح طلب مرعب يلوح في الأفق، بالله عليك لا تقل لي أنك تريدني بصاصاً عليه، شبح مخاوفي ترجمه سؤالي:
-         ما الذي تريد قوله؟
-         الجماعة يريدون منك أن تنقل لهم كل ما يتعلق بهانيبال أولا بأول.
-         ألا تتعاون معكم المدرسة بالخصوص.
-    لأداء المدرسة حدود، أما عن سلوك هانيبال بين رفاقه وسلوكهم معه فهو أمر يصعب على المدرسة رصده، ولن يستطيع رصده ولا متابعته إلا أحد رفاقه.
-         ولكنني لست أحد رفاقه المقربين.
-         لا حاجة لتكون مقربا كي تتابعه.
-         ولكن سنتي الدراسية معه انتهت ولا أعلم إن كنت سأجمع معه مستقبلا أم لا.
-         هذه ليست مشكلة.
تقاطرت المبررات في رأسي محمومة مثلي، أي كارثة أُقبِل عليها مكرها؟ لا بد من مخرج ما، مخرج آمن للجميع.
-         لابد وأن أحد رفاقه قادر على أداء هذا العمل أفضل مني، فأنا أعتقد بعدم قدرتي على أداءه.
-         ولماذا؟
-         لأنه صديقي، ولا أستطيع أن أكون صديقه وأنقل ما يدور معه لكم.
-         بل تستطيع إن كانت مصلحته تهمك.
كيف أستطيع أن أخبره بأنني أكره الوشاية والوشاة وأفضل الموت ألف مرة على أن أتهم بها ولو زورا، وربما حولني أبي حطبا لغذاء الغد إذا ورطت نفسي معه.
-         لا أعتقد بأنني صالح لهذه المهمة، لا بد من وجود شخص ما أكثر كفاءة مني لأداءها.
-         هل تريد بعض الوقت للتفكير؟
أتراه يقصد منحي وقتا للتفكير حقا أم أنه مخرج صنعه لي طوعا حتى حين؟
-         حسنا، دعني أفكر.
-         اتفقنا.
أعدت السماعة لمكانها وأنا لا أكاد أصدق ما دار بيني وبينه، الأدهى: كيف أستطيع أن أخبر أحد بهذا الحوار؟
والأَمَرّ: كيف أستطيع كتمانه فلا أبوح به لأحد حتى لا أنفجر؟
نسيت أن أذكركم بأنني كنت على موعد قريب مع نتائج الدور الثاني.

*****

الفصل السادس: قنبلة من العيار الثقيل

الشخصيات:
1.  ع.أ: جار فلسطيني، أبادله الود والاحترام، له ماض وحاضر عسكري، وعلاقات لا حصر لها، إحداها مع "أبو" أحدهم، وهو مدرس فلسطيني.
2.     أ.ف ختصارا لتسمية أبو فلان: نسيت اسم ابنه الذي يكنى المدرس به، وهو مدرس فلسطيني ذو نفوذ متأصل في مدرسة طرابلس الثانوية، التي أشرفت على مراقبة وتصحيح امتحانات مدرسة علي وريث، لجاري تأثير و"خاطر" كبير عنده.
3.     وأنا أيضا وأيضا وأيضا وأيضا.

أردتها زيارة عابرة إلى مدرستي، كي تقر عيناي بمرأى نتائجي في امتحانات الدور الثاني، أمُر إثرها على محل حلويات ما لتحتفي أسرتي وأصدقائي معي بالخبر السار، صحيح أنني لا أحب الحلويات، ولكن غيري يفعلون.
بيد أن الإنفاق كان من نصيب مشاعري لا نقودي، تراني لم أحسن البحث في النتائج أم أن اسمي غائب فعلا من قوائم الناجحين؟ لعلها من اللحظات النادرة التي تتقبل فيها اتهامك بانعدام التركيز والنظر بسرور مقابل أن يرى غيرك اسمك بين القوائم فيشير إليه وهو يقدحك بتهمة تشنف أذنيك: هل أصبت بالعمى كي لا ترى اسمك؟
دقات قلبي تتصاعد، والدماء تصعد إلى أذناي في إشارة إلى وصولي ذروة انفعالاتي، وعقلي يهدر متخبطا كسيارة مجنونة تنطلق مرقلة بلا سائق، ما الذي يحدث؟ ألم أتأكد من إجابتي؟ ألم يؤكد لي أ.ف ظهور اسمي بين الناجحين في النتيجة المبدئية؟
المزيد من التدقيق في القوائم أفجعني باحتلال اسمي موقعا بين راسبي مادة الرياضيات البحتة، لم أحفل كثيرا بمقدار تدلي فكي المشدوه هذه المرة، فالمفاجأة من العيار الثقيل الذي يجعل اهتمامي بمظهري ترفا مبالغا فيه.
لا أدري كيف استطعت التماس طريقي إلى شارعي وسط شعوري بانعدام الوزن والتركيز، ولكن عقلي الباطن فعلها، لأجد نفسي أطرق باب بيت جاري ع.أ عله يساعدني في العثور على تفسير ما.
-         أهلين فيك مراد، ما بك.
كلمات مبعثرة تساقطت من فاي استغرقت منه جهدا ووقتا كي يفك طلاسمها ويستخلص منها معنى مفهوم وسط فوضى أفكاري، التقط إثرها زمام المبادرة فتغيب قليلا داخل منزله وعاد وقد استعد للخروج:
-         هيا إلى أ.ف.
كم أنت رائع يا ع.أ، سأظل مدينا لحكمتك التي تجلت في قدرتك تطعيم عبارات التشجيع مع المواساة وشد الأزر تحضيرا لتوقع الأسوأ، تراها سني طفولتك الرومانسية في فلسطين التي جعلتك تمتهن حفر القبور؟
فسحة من الزمن كانت كافية كي يطل علينا أ.ف بوجهه مبتسما فواجما لوجومنا، وتكفل ع.أ بالتوضيح خشية تمضية المساء والسهرة بين تلعثمي وتهدجي.
-         غريب، هل أنت متأكد.
-         متأكد تماما.
-         لم يحدث أن تغيرت نتيجة من نجاح إلى رسوب أثناء اعتماد النتائج، حدوث العكس أمر مقبول.
-         في حال حدوث أي خطأ، هل بإمكانك مراجعة الإجابات؟
-    لا للأسف، فأوراق الإجابات تحال إلى "أمانة" التعليم فور اعتمادها من قبلنا، وهذا أمر عسير جدا للأسف بعد صدور نتائج الدور الثاني.
-         ماذا يعني هذا؟
-         لا أدري ما أقول، أنا متأكد تماما من نجاحك وفق النتائج المبدئية، ولا أعلم كيف حصل هذا الخطأ.
شبح فكرة سوداء تبادر إلى ذهني حاولت تبديدها لسوء وقعها على نفسي إن صحت.
-         ما العمل الآن؟
-         لا أعلم والله.
حل وحيد اهتديت له في ذلك الحين، لم أعلم أنني أساق له طوعا دون أن أدري.
الحل هو مصباح علاء الدين.
ومن غيره طبعا؟

*****

الفصل السابع: قنبلة في الاتجاه الآخر

الشخصيات:
مختار المزوغي: مدير مكتب ما داخل باب العزيزية، وطرف في أزمة ما داخل حياتي.
أنا: أيضا وأيضا وأيضا وأيضا.

الهاتف أمامي، وقلبي يخفق في شدة، والدايَّ متأثرين جدا وجاهدا في مواساتي، استشرتهم فيما أعزم فعله، لم يوافقاني كلية، ولكنهما سمحا لي بالمحاولة رأفة بي، إصبعي يدير قرص الهاتف الذي صار اختراعا قديما الآن، صوت الخربشات التقليدي معلنا بأن طلبك قيد المعالجة، رنات عدة قبل أن يرد الطرف الآخر.
-         أستاذ مختار؟
-         تفضل، من معي.
-         مراد.
-         أهلا مراد، خيرا إن شاء الله.
كنت قد استعدت قدرتي على ترتيب أفكاري، لذلك استطعت شرح القصة في شيء من الإيجاز، مع الكثير من عبارات الالتماس والتأدب التي اعتدتها كلما سألت أحد طلبا ما، مع توضيح أمر هام جدا بالنسبة لي:
- لا أسألك قصد منحي ما لا أستحق، أسألك مساعدتي فقط على مراجعة أوراق إجابتي، فإن استحققت النجاح نلته، وإن لم أستحقه فلن أنشد نجاحا لا أستحقه.
-         هممممممممممممم، ربما نستطيع مساعدتك.
كاد قلبي يثب فرحا، لم أصدق أن المشكلة قابلة للحل.
-         بارك الله فيكم.
-         ولكن هلا فكرت في طلبنا السابق؟
يا إلهي، إجعلني مخطئا هذه المرة أرجوك، لا أستطيع أن أصدق وجود هكذا شر في حياتي.
-         أي طلب؟ (متغابيا سئلت).
-         طلبنا بشأن هانيبال.
-         لم أستطع تغيير رأيي بعد.
-         نحن نعول كثيرا على تغييرك لرأيك من أجلك.
رائحة الصفقة الخبيثة بدأت تفوح فعلا، ماذا عساني أفعل؟ كيف السبيل إلى التوفيق بين مطلبهم ومطلبي دون أن أخسر نفسي؟ ربما إذا ...
-         حسنا، أنا موافق، ولكن بشرط واحد.
تسللت الراحة إلى صوته وهو يرد، تراه ظن أنني سأشترط شيئا ماديا كقابل؟
-         تفضل.
-    سبق وأخبرتك أن هانيبال بمثابة صديق لي، وهذا يحتم حفظ حق الصداقة، سأقبل أن أنقل لكم كل ما يدور معه داخل المدرسة، شريطة أن تعلموه بهذا الدور، وأنني كنت من اشترط معرفته بما أقوم به.
-         طلبك غير منطقي، فهذا سيعني اتخاذه سلوكا حذرا تجاهك.
-         أعلم هذا، ولكن هذا هو شرطي كي أقبل بالمهمة.
-         ولماذا لا تستطيع أداء المطلوب دون شروط.
الحق أنني ضِقت ذرعا باللف والدوران حول سبب رفضي الحقيقي لطلبه، وهو ما دفعني لإعلانه بهدوء:
-         لأن إعادة نقل الأخبار ليس من شيم الرجال (بالعامية: عواد الدوة مش صنعة تريس).
صمت مطبق خيم من طرف مختار، لعله لم يتوقع هذه الإجابة من وقح لم يتعد 17سنة، لذلك أعاد السؤال مجددا:
-         ماذا قلت؟
-         قلت أن إعادة نقل الأخبار ليس من شيم الرجال.
الحق أن مَدُّ ذاكرتي انحسر عما حدث بعد هذا الجزء من الحوار، فلم أعد أذكر رده ولا كيف انتهت المكالمة، كل ما أذكره هو يقيني بأن مشكلتي الدراسية استفحلت لتصبح واقعا مفروضا يجب أن أتعايش معه قسرا.
تراه العقل الباطن الذي أسعف العقل الواعي بقدرة على التكيف والتدبر لما بعد الواقع؟ فكرتان تتلخصان في مرارة قبول النتيجة ومرارة مشاهدة أقراني ينتقلون إلى مستوى أعلى وأنا في ذات المستوى الدراسي أرقاني جدا، ولكن سرعان ما اهتديت إلى حل سررت لأنني اعتبرته مخرجا لواقعي؛ لماذا لا أنتقل إلى مدرسة طرابلس الثانوية، فسأضمن بهذا عدة أشياء:
1-     لن أضطر إلى اجترار طعم مرارة مشاهدة أقراني في فصول متقدمة.
2-     سأضمن متابعة أ.ف لتحصيلي ونتائجي.
3-     سأتخلص من سبب مشكلتي الأساس، وهو وجودي مع هانيبال في مدرسة واحدة.
وبزيارة إلى ع.أ، انقلت رغبتي إلى مرحلة التنفيذ، ليتكفل أ.ف بمسألة نقل الملف من مدرستي إلى المدرسة الجديدة.
أيام معدودة أعاد بعدها مختار الاتصال، هذه المرة كنت هادئا وواثقا، ربما أكثر من اللازم.
-         كيف حالك يا مراد.
-         الحمد لله.
-         ألم تعد التفكير مجددا؟
-    دعني أوضح لك أمرا، حتى إن وافقت على طلبك، لن أستطيع ذلك لسبب بسيط، وهو انتقالي من المدرسة إلى مدرسة أخرى، وهو ما يجعلني غير ذي نفع.
-         لماذا انتقلت؟ وأين؟
-         انقلت لأنني لا أستطيع مشاهدة اقراني يسبقونني دراسيا، لذلك قمت بالانتقال إلى مدرسة طرابلس الثانوية.
وانتهت المكالمة فيما بيننا، دون أن أدري أي حماقة ارتكبتها في حق نفسي، لكنني سأعلم قريبا.
من قال أن الأزمة ستنتهي بهذه السهولة؟

*****

الفصل الثامن: ثمن الاختيار

الشخصيات:
مختار المزوغي: مدير مكتب ما داخل باب العزيزية، وطرف في أزمة ما داخل حياتي.
أ.ف.
ع.أ.
أنا.
أعمار بلال: قمت بتعريفه سابقا.
ز.ع: إحم، أأأأأ، والدتي وكفى (لماذا تبتسم؟)

ع.أ يطرق باب منزلنا، الأمر غير اعتيادي، لأنني اعتدت أن أسبقه إلى هذا دوما، لم أدر أينا كان أكثر إرعابا للأخر لأنني صحوت من نوم القيلولة على وجهه المتجهم، خيرا إن شاء الله.
- سنزور أ.ف، ارتد ملابسك.
أخفقت كل محاولاتي لاستباق سبب الزيارة، التي تحققت سريعا لنجد نفسينا على عتبة بابه.
-         أهلا مراد، هل أخبرته يا ع.
-         لا.
-         أريد أن أسألك بعض الأسئلة وأتمنى أن تجيبني بصدق: هل لديك أو لدى والدك عداوة مع شخصية نافذة؟
-         لماذا؟
-    لأن طلبي لنقلك تم إيقافه من مدير المدرسة "آمر الثكنة"، وهي سابقة لم تحدث بيني وبينه، وعندما ألححت عليه بالطلب أجابني بالحرف الواحد: (أطلب أي طلب آخر، ولكنني لن أجيب طلبك بشأن هذا الشخص تحديدا، ولا تسألني لماذا)، أخبرني بصراحة يا بني "شو عامل؟"، فالتفسير الوحيد هو وجود قوى منعته من إجابة طلبي.
-         هل يعني هذا سد الطريق نهائيا أمام محاولتي الانتقال؟
-         نعم للأسف، وما أستغربه؛ كيف يمكن لشخص ما أن يعلم بشأن انتقالك فيمنعه؟ هل أخبرت أحدا بالأمر؟
اتضحت معالم الأمر تماما، فحماقتي ومختار تكفلا بوأد مشروع انتقالي من المدرسة نهائيا ضمانا لاستمراري بها، هذا إذا لم أقرر التوقف عن الدراسة نهائيا، وهو خيار غير مطروق قطعا.
لا أعلم كيف استطعت التملص من الرد على أ.ف، ولكن ما أذكره هو إصراري على تأكيد قراري مهما كان الثمن، وهذا ما حدث فعلا بعد أيام عبر الهاتف:
-         كيف حالك يا مراد، ماذا حدث معك.
-         يبدو أنني سأستمر في المدرسة، ولكنني وصلت إلى قرار.
-         وما هو قرارك؟
-         ذات قراري السابق، أنا لا أنفع في هذا النوع من المهام، سأكون مسرورا لو استطعت تلبية طلب ضمن قدرتي.
-         أنت حر.
نعم أنا حر، ولهذا قررت أن احتفظ بهذه الحرية بعيدا عن أية قيود مهما كان ثمنها.
والدتي تتوجه نحو سلك الهاتف لتقتلعه من مكانه اقتلاعا ليخرس صوته حتى ستة أشهر قادمة.
هل فعلت هذا مدفوعة برؤية ما ترقرق للحظة عابرة في عيناي نتيجة إحساسي بالظلم والمرارة؟
صحيح أنني دفعت الثمن مرارة العلقم، صحيح أنني فقدت الاحترام لكل مسؤول أراه في حياتي لأنني صرت أرى فيه إسقاطا للمسؤول الأكبر في ليبيا، صحيح أيضا أنني تدافعت خلال السنة السوداء متبادلا إمساك الخناق مع أستاذ اللغة العربية لأول مرة في حياتي، كل هذا صحيح.
ولكن الصحيح أيضا، هو احتفاظي باحترامي لذاتي، التي أحار الآن في قدرتها على تشكيل وحفظ قرار بهذه الخطورة خلال سني المراهقة، تراه عالم المطالعة الذي شحذ همتي؟ أم التربية؟ أم طفرة التغيرات الهرمونية التي عاشها بدني تلك الأيام؟
حقيقة لا أملك جوابا، ولكنني أملك تعقيبا.
حسبي الله ونعم الوكيل.

*****