السبت، 18 نوفمبر 2017

كمان (قصة قصيرة متعددة النهايات)

أُداعبُ أوتار الكمان بأسلوب النبر كعادتي، مُزَجِّياً وقت الانتظار في صالة المغادرة بمطار "فيينا"، الحيرة رفيقي الدائم تجاه من يتخمون أنفسهم بالحقائب وكأنهم يستعدون لمغادرة الكوكب أو الحياة، لماذا لا يكتفي الناس ببضعة أغراض، وستتكفل مواد التنظيف باستعادة بريقها كل مرة؟ وحده الكمان رفيقي على الدوام، الكمان الذي تعتق حتما بعد أن شدى مئات المرات بألحان لا تختلف عن الطائرة التي ننتظر أن نستقلها نحو السحاب، كلاهما يحلق بي بعيدا.

لم تفقد "أوركسترا برلين الفيلهارمونية" أَلَقَهَا عندي بعد، لا أزال أشعر وكأنني حديث العهد بها، لا زالت تثير الرعدة في أوصالي لتهتز لها أوتار كماني كلما انتظم عقد جوقتنا فيه، مازِلتُ أعشق بدن الكمان وروحه، بل وكل خدش فيه، ومنحنيات "ستراديفاري" الرشيقة بأجزاءها التسع وسبعين، أتألم كلما ترجم التقادم علاماته على أوتاره، أداعبها كمن يغزل الحرير بِحُنُو، بل وأعشق الرائحة المنبعثة من جوفه، لماذا تتبدد الرائحة من ذاكرتي ولا تحتل ركنا دائما فيها؟ قلبت الكمان لأنعش ذاكرتي برائحته مجددا ...

(لا يعلم كيف، ولكنه وجد الكمان يخضع لسلطان فيزياء خارجية استحدثها ارتطام طفل به، تحررت طاقة الحركة من الطفل ليكتسبها الكمان فينطلق من يده كعصفور يتوق للحرية، لا مجال لتوقع ما سيحدث للكمان، "إدوارد لورينتز" نفسه ما كان ليحدد مسار تحليقه ولا محل سقوطه، المشهد وقلبه يتوقفان، كمانه سيعزف أقصر ألحانه بعد ثوان ليتركه وحيدا، وجه والدة الطفل المذعور وأناملها تكمم فمها لا تزيد المشهد إلا كارثية.)

ناولني ذلك الشاب الشمال أفريقي الكمان، أَلْتَقِفُهُ وأضمه لي كمن يضم طفلا كاد أن يدهسه قطار، لولا هوسي الشديد بسلامته لغمرته بدموع الفرح، وضعتُ الكمان جانبا ووقفت لأحتضن الشاب وأغرقه بالدمع بدلا عن الكمان على سبيل الشكر، والدة الطفل ورفاق المغادرة شاطرونني الفرح، والحيرة والدهشة حول المعجزة التي التقط بها الشاب الكمان قبل وقوعه، لم يكن الوقت يسمح لتصويره، لربما سيفعل هذا لاحقا أحد مراقبي كاميرات المراقبة المنتشرة عبر المطار، الشاب يثير المزيد من شجني وأريحيتي بحياءه، لا يمكن أن أتركه دون أن أُجلسه قربي لأحادثه على سبيل الامتنان، صحيح أن هيئة الشاب وسلوكه تشيان باختلاف ثقافته ورساخة حاجز اللغة بيننا، وجدت نفسي أُتمتم مستحضرا رصيدا من عبارات شكر إنجليزية وفرنسية وإيطالية على أمل أن تصيب أحدها مستقبلات الاستيعاب لديه، عيناه الباسمتان تشيان بالفهم، مجيباً بالألمانية:
- لا داعي للشكر أرجوك، مازال بإمكانكما رؤية "وجه الربيع المرح" معا.

حالة الدهشة والإعجاب تنتشلني من الشجن الذي تملكني قبل قليل، متسائلا في نفسي: كيف يمكن لقريحة وحنجرة هذا الشاب أن تلوك الألمانية لغة كما يلوكها سكان مدينتي تحديدا؟ وثقافة عندما تعمَّدَ صياغة هذه العبارة ليشي بأن ثقافته تسع كلمات "كارمينا بورانا"؟ عيناه واثقتان خجولان كآري صميم، ولكنه ليس آرياً، عَقَّبت:
- فِعلا بعد أن كاد "لينتحب الجميع معي"، "هنريش".
- "جاد".

نعم، عيناه تشيان مجددا بإدراكه يقينا ما قاله وأجبته به، هل تتعدى معرفته مجرد الكلمات، من أنقذَ الكمان جدير أن يحمله، ناولتهُ له فتناوله باسماً وقد أدرك غايتي، مفردة متساءلة طرحها وعيناه تنظران صوب حافظة الكمان وكأنه يعرف الإجابة:
"سوردينو"!

انحيتُ ألتقطُ كاتم الصوت، متعجبا في قرارة نفسي؛ "كارمينا بورانا" غير جهيرة! 

هل يدفعه خجله الظاهر لاستخدام كاتم الصوت! بل ويعرف "سوردينو" أساسا؟

أنامله تثبت السوردينو على فرس الكمان، يريح ذقنه وكأنه "أندري ريو" ذاته، يسدل جفنيه لينفصل عن العالم من حوله كما ينبغي لأي خجول أن يفعل ليتملص من قيود الأنظار من حوله، قلبي يخفق في شدة منتظرا لونا بكرا لم أسمعه من قبل.

النهاية الأولى: خيره حط الكمان وناض؟
مراد بلال، عشية خميسية 16-11-2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق