السبت، 18 نوفمبر 2017

كمان (الجزء الثاني - نهاية أخرى)

كمان - 2

النهاية الثانية:

لطالما احترت في أمرين: من أين تأتي القريحة بالألحان؟ هل تجود بها خلايا الملحن الرمادية؟ أم أنها مجرد هوائي يلتقطها من بُعد آخرً، تأتي منه لتعود إليه بعد أن تغادر الآلة الموسيقية وتضمحل دون عتبة السمع الدُنيا لآذاننا؟

هذا الشاب لا يعزف، هذا الشاب يفتح بوابة نجمية تفصلنا عن عالم آخر، عالم يقف الزمن عند عتباته، فلا تستطيع التمييز؛ هل جاءت الألحان منه أم ذهبت إليه، ألحان تشكلت في هيئة المضمون، أرى أمامي وجه الربيع المرح، أراه حقا يقينا لا يوصف في مواجهتنا، باسما، بينما تختفي عوارض الشتاء في الأفق، لا بد أن الشتاء كان هنا قبل حضورنا، الألوان البهيجة تخترق وتلهب حواسي وإدراكي، الألوان ليست كالألوان، هناك ألوان تقع خارج طيف إدراك بصري، أدركها لأول مرة، ثمة أغان لم أسمعها من قبل مصدرها الغابات، رياح غربية رخية تهدينا أنساما عطرية، قلبي الذي توقف عن الحب منذ وفاة "جوزيفين" ينبض بالحب، هل يمكن أن ينبض بالحب للحب ذاته حتى في غياب محبوب؟

ثمة بلبل يتغنى كقيثار، هل رأيت مرجا يضحك من قبل؟ هذا المرج يضحك، نبادله الضحك، نعم، لم أكن وحدي، رفاق الرحلة يشاركونني هذه التجربة التي أعلم أنها ستنتهي بعد ثوان، فقصيدة "وجه الربيع المرح" قصيرة للأسف، نعم، ها هو سرب الطيور يرتفع عبر الغابات المسرورة، لا تتوقف بالله عليك، "كارل أورف" نفسه لم يبلغ هذا الحد، ولم يعلم أنه كان مجرد ناقل خبر نقف الآن شهود عيان عليه قبل أن...

عندما توقف الكمان عن الشدو، توقفت حواسنا معه، لم نمتلك القدرة على استخدامها، بعد أن دفعتها الرحلة إلى تخطي حدودها لتثقل إدراكنا بتداعيات لا تقل عن تداعيات الانفجار الكبير ذاته، كنا نلهث حقا، منتشين، رغم عودة أجسادنا إلى المقاعد، إلا أن أثر التجربة المنعش لم يتبدد بعد، نتبادل نظرات الذهول.

أما هو، فقد وضع الكمان جانبا دون أن يفتح عيناه، ارتفاع صوت تصفيق خافت لمن استطاع مغالبة إجهاده قبلنا، أكفف أخرى استطاعت مجاراته، لتضج قاعة الانتظار بالتصفيق، وجهه يحمر خجلا وهو يطرق رأسه، عدت إلى عناقه من جانب واحد، لم أستطع أن أتفوه بكلمة معه، استأذن متجها إلى دورة المياه، كالمسحور تبعته، يجب أن أقول شيئا له.

عندما وصلت إلى هناك، رأيته يقف جوار نافذة كان قد فتحها، لم يلتفت لي، سمعت صوته داخل رأسي:
- سنتحدث بشأن "جوزيفين" لاحقاً "هنريش".

قبل أن يطير بعيدا، نعم يطير، حرفياً، تاركا إياي وراءه متسائلا حول أمر آخر:
أي تجربة كنا سنخوضها، إن وقع اختياره على قصيدة "الحظ سيدة العالم"؟

هذه النهاية إهداء إلى الفارابي رحمه الله، الذي أضحك وأبكى وأنام مجلسا ليتركه بهدوء.
مراد بلال، ليلة جمعة، 17 - 11 - 2017

هناك تعليق واحد:

  1. اخي مراد ..
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

    تحيه طيبه .
    معاك نصار من السعودية ..
    طمننا عن احوالكم واخباركم .. اتمنى التواصل

    ردحذف