الجمعة، 31 يناير 2014

طيران

" ... يسير الهوينى جنبا إلى جنب مع رفيقه الذي ماثله اسماً وسبقه ثلاث أعوام عُمرا، ممر معشب الجانب في كلية الهندسة يشهد في صمت ارتفاعه الخارق للطبيعة عن سطح الأرض، ابتسامة طفولية تزين ثغره، ونشوة مشوبة بحرقة شوق للطيران تُرعد جسده، رفيقه يتلفت حوله في قلق وتوجس.
- أنزل خير ما يشوفك حد وانتا تطير.
- ما فيش حد ما تخافش.
لسبب ما لا يعلمه، تَعَوَّد تحت وطأة خوفه الدائم من اقتناص (ظاهرة) طيرانه للاكتفاء بالمشي وسيلة للانتقال أسوة ببقية البشر، كيف سيشرح للآخرين قدرته على الطيران؟ الأمر يشبه عنده قدرتهم على تحريك أعضاءهم عندما يقرر الدماغ فِعل هذا، وإرادته تتكفل بالقضاء على أثر (الجرافيتون) الذي ينقل تأثير عالم مواز لنا على هيئة جاذبية.
توقه للطيران كان يغلبه أحيانا وهذه إحداها، ولكنه سيفلت من (القنص) حتما، فهذا ناموسهما، ولن ينقطع اليوم حتما.
- مش قلتلك؟
ينظر إلى رفيقه مرتعب الصوت والهيئة، ويرى إصبعه يشير إلى حيث هاله المرأى.
حشد غفير من رجال يرتدون أزياء عسكرية منوعة، يتصدرهم شخص يخلو زيه من أي إشارات أو رتب، مجرد زي (كاكي)، يشير بإصبعه آمرا تجاههما، يأتمر الرجال بأمره، يهرعون إليهم، حركتهم الراكضة وتقاسيم وجهوههم الجادة الحازمة، وأيديهم المتحفزة على أسلحتهم سدت ذرائع التخمين.
- طير.
يتجاهل رفيقه للنجاة بنفسه، فينخفض إلى مستوى رفيقه ليأخذ بيديه ويرتفع لأعلى مجددا.
- مش بروحي.
يرتفع أعلى فأعلى، فيتجاوز سطح كلية الهندسة، الرجال بالأسفل يلاحقونهما بإصرار، ينظر أمامه فيرى مبنى هائل الحجم، أبيض اللون، يسد الأفق، اكتفى بُناتِه بتجهيز فتحات لأبواب والنوافذ دون إتمام مهمتهم بتأطيرها وإغلاقها.
لسبب ما بوصلته الداخلية تيمم وجهة المبنى، المبنى يزداد حجما بفعل اقترابه منه، يخترق نافذة طابق مرتفع.
حجرة واسعة بلا سقف، يرتفع لأعلى بسرعة عالية قبل أن يرتد مصطدما، تقاسم رأسه شعور الدهشة والألم، لما ظنه سماء فتبين أنه سقف مموه، قرر الطيران تجاه نافذة مقابلة لتلك التي ولج منها، ولكن...
ميول سقف الغرفة في ركن من أركانها استوقفه، تلفت يمنة ويسرى، تلك الدعامة الرومانية ستفي بالغرض حتما، يمارس مهمة سوبرمانية بإمساك الدعامة لأسنادها أسفل الجزء المائل كي تقومه، يضبطها أخيرا ليصبح السقف مستويا، يبتسم في رضى، ثم يلتفت ليواصل طيرانه خروجا عبر النافذة المقابلة.
وزنه صار أثقل لسبب خارج عن إدراكه وسيطرته، شيء ما تعلق بقدميه فينتقص من قدرته على الطيران، ينظر إلى أسفل، أحد الرجال الذين انطلقوا في إثره أفلح في الإمساك به دون أن يشعر به مقتنصا انشغاله بإنقاذ السقف.
يقرر ارتقاء المخاطرة، عبر به النافذة التي تفضي إلى ساحة داخلية مفتوحة يقابله فيها نافذة أخرى لحجرة أخرى موازية، الشخص الذي يتعلق به يمارس جهدا خارقا بدوره ليمنعه عن الطيران، تحت وطأة الخوف من الأسر، اضطر آسفا إلى التخلي عن توظيف قدرته الفريدة ليسقطا سقوطا حرا، الرعب يستبد بالمتشبت فيشتت تركيزه لبرهة كانت كافية لإفلات يديه، خلاياه تستصرخ قدرته مجددا لترتفع به فيلج النافذة المقابلة الجديدة متمنيا عدم سماع صوت الارتطام.
حجرة أقل انخفاضا من سابقتها، تضطره إلى السير، يخرج منها إلى ممر مظلم، مبنى مثير للرهبة مهجور على ما يبدو، خال من الأثاث والأبواب والنوافذ، يسير بحذر لبرهة قبل أن:
- (معاذ).
يلتفت وجسا، الشخص (الآمر) ذو الزي (الكاكي) بذاته، الذي أرسل الرجال في إثره، كيف استطاع معرفة اسمه؟
- (معاذ) نِبِّي نكلمك.
يسير القهقرى، هاجس ما ينبئه أن الرجل (ليس سيئا) مثلما بدا له.
- شِن تِبِّي مِنِّي؟
- نِبِّي نِدْوي معاك دقيقة بس.
يقترب محدثه منه فلا يواصل تقهقره، لا يعلم لِمَ قرر التوقف هذه المرة عن الهروب، محدثه يصله أخيرا، يصافحه بيد (واثقة).
- نِبِّي نطلب مِنِّك طلب.
- شني؟
- نبيك توثق فيا.
- ما فهمتش!
- (معاذ) البلاد محتاجاتك.
فكه يتدلى ببلاهة، إن لم تنتهز البلاهة هذه الفرصة فمتى ستحظى بأخرى اكتساح تقاسيم وجهه؟
- البلاد محتاجتني أني؟
- إيه.
- علاش؟ واشمعنى أني؟
- لأنك تقدر اتطير.
أُسقِط في يده وحار جوابا، ما علاقة قدرته على الطيران التي (تَسَتَّر) عليها طيلة عمره، بالبلاد!!!
المصافحة تطورت إلى شكل من أشكال القيد الآدمي الوِدِّي، ذراع محدثه تزداد ثقة وإصرارا فتلتف حول مرفقه لتشتبك بأصابعه كأنهما صديقين قديمين، طوقٌ في (شِدَّة) من غير عنف، محدثه يدعوه في صمت للسير إلى جانبه.
- نِبِّيك تُوْثِق فِيَّا ومتخافش.
تراه صوته المطمئن؟ أم لهجته الواثقة؟ أم لعلها تقاسيم وجهه الصادقة؟
لا يعلم صدقا لِمَ يعتقد بأن الرجل استحق ثقته فنالها، وقبل أن يسترسل في أفكاره توقفت خطواتهم عند مدخل غرفة، هذه المرة، حظت بباب يسمح بالدق عليه للاستئذان أولاً.
- تفضل.
(مطارده) السابق ورفيقه الحالي يفتح الباب وهو لا يزال ممسكا بيده، أين ذهب رفيقه السابق يا ترى؟
الحجرة أكثر إظلاما من بقية أرجاء المبنى، ظُلمة بالكاد يتبين معها خطواته الواثقة بسبب خلو الحجرة من أثاث قد يعترض طريقهما إليه، لماذا يبدو سقف هذه الحجرة أكثر انخفاضا من سابقاتها ومساحتها أكثر اتساعا؟ مكتب يقع في منتصف الثلث الأخير منها.
ضوء خافت جدا، من مصدر ما يظهر خلف (تكوين) رجل ما يجلس على المكتب.
- جي معاك؟
قبضة (مطارده) تزداد إطباقا على يده.
- إيه جي معاي.
يواصلان التقدم تجاه الرجل الغامض الذي ظلت ملامحه تتدثر عباءة الظلام، حتى عندما بلغاه أخيراً.
- قُلتله؟
- إيه.
- باهي خلِّلي نقروا الفاتحة.
تتشابك أيدي الثلاثة معا، يقرأون الفاتحة بصوت خافت، يقرأونها بالكامل، كلمة كلمة، حرفا حرفا، بصوت خافت مهيب، وهو لا يكف عن الاستغراب وعدم الفهم، حتى انتهوا من قرآتها بالكامل، و... ".

*****

آذان الفجر يصدح مبددا سكون الليل، فينتشله من الحلم، الملون.

*****

طرابلس 1995.

هناك تعليق واحد: